السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، واسعد أوقاتكم بكل خير، وعطر أنفاسكم بريح الجنة، أحبتي الحياة ساعة فلنجعلها في طاعة، مجّد الله نفسه وأخبر أن بيده الملك والتصرف في جميع المخلوقات بما يشاء لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل، لقهره وحكمته وعدله، وهو القدير على كل شيء ثم أخبر بأنه قدّر الموت والحياة ليبلوكم فينظر من منكم أخلص له عملا، وهو ذو العزة الغالب على أمره، الغفور لمن أذنب ثم تاب وأقلع عنه، ثم أردف ذلك بأنه خلق سبع سموات بعضها فوق بعض لا خلل فيها ولا عيب، فانظر أيها الرائي أترى فيها شقا أو عيبا؟ ثم أعد النظر وحدّق بالبصر، لتستيقن تمام تناسبها واستواء خلقها، وقد زيّنا أقرب السموات إليكم بكواكب يهتدى بها الساري، ويعلم بها عدد السنين والحساب، وعليها تتوقف حياة الحيوان والنبات، وهي أيضا سبب الأرزاق المهيجة لشهوات شياطين الإنس والجن، وهؤلاء قد استمدوا شيطنتهم من مظاهر الطبيعة بوساطة الحرارة والضوء من الكواكب، وبذا أعد لهم عذاب السعير جزاء ما اقترفوا في حياتهم الدنيا. وهذا مدلت عليه الآيات الكريمات من سورة الملك.....
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقًا ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) ولَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُومًا لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5)
(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تعالى ربنا الذي بيده ملك الدنيا والآخرة، فهو يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويرفع أقواما ويخفض آخرين، وهو على ما يشاء فعله ذو قدرة لا يمنعه مانع، ولا يحول بينه وبين ما يريد عجز، فله التصرف التام في الموجودات على مقتضى إرادته ومشيئته بلا منازع ولا مدافع. تعاظم عن صفات المخلوقين من بيده الملك والتصرف في كل شيء، وهو قدير يتصرف في ملكه كيف يريد من إنعام وانتقام، ورفع ووضع، وإعطاء ومنع.
ثم شرع يفصل بعض أحكام الملك وآثار القدرة، ويبين ابتناءهما على الحكم والمصالح، وأنهما يستتبعان غايات جليلة فقال:
(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) الذي قدر الموت وقدر الحياة وجعل لكل منهما مواقيت لا يعلمها إلا هو.
(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) ليعاملكم معاملة من يختبر حاله، وينظر أيكم أخلص في عمله، فيجازيكم بذلك بحسب تفاوت مراتبكم وأعمالكم، سواء أكانت أعمال القلب أم كانت أعمال الجوارح.
وقد روى في تفسير الآية عن رسول الله أنه قال: « أيكم أحسن عقلا، وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعته عز وجل » يعني أيكم أتم فهما لما يصدر عن حضرة القدس، وأكمل ضبطا لما يؤخذ من خطابه، وأيكم أبعد عن ملابسة الكبائر، وأسرع في إجابة داعي الله.
وفيه ترغيب في الطاعات وزجر عن المعاصي كما لا يخفى على ذوي الألباب.
(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) وهو القوى الشديد الانتقام ممن عصاه وخالف أمره، الغفور لذنوب من أناب إليه وأقلع عنها.
وقد قرن سبحانه الترهيب بالترغيب في مواضع كثيرة من كتابه كقوله تعالى: « نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ ».
وإثبات العزة والغفران له يتضمن كونه قادرا على كل المقدورات، عالما بكل المعلومات، ليجازى المحسن والمسيء بالثواب والعقاب، ويعلم المطيع من العاصي، فلا يقع خطأ في إيصال الحق إلى من يستحقه، ثوابا كان أو عقابا.
ثم ذكر دلائل قدرته فقال:
(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقًا) هو الذي أوجد سبع سموات بعضها فوق بعض في جوّ الهواء بلا عماد، ولا رابط يربطها مع اختصاص كل منها بحيز معين ونظم ثابتة لا تتغير بل بنظام الجاذبية البديع بين أجرام الأرضين والسموات، كما جاء في قوله: « اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ».
ثم ذكر دلائل العلم فقال:
(ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) لا ترى أيها الرائي تفاوتا وعدم تناسب، فلا يتجاوز شيء منه الحد الذي يجب له زيادة أو نقصا على نحو ما قيل:
تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى بهنّ اختلافا بل أتين على قدر، فإن كنت في ريب من هذا فارجع البصر حتى تتضح لك الحال، ولا يبقى لك شبهة في تحقق ذلك التناسب والسلامة من الاختلاف والشقوق بينها.
وإنما قال: (فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) دون أن يقول: (فيها) تعظيما لخلقهنّ، وتنبيها إلى سبب سلامتهنّ من التفاوت بأنهنّ من خلق الرحمن، وأنه خلقهنّ بباهر قدرته وواسع رحمته تفضلا منه وإحسانا، وأن هذه الرحمة عامة في هذه العوالم جميعا.
ثم أمره بتكرير البصر في خلق الرحمن على سبيل التصفح والتتبع، هل يجد فيه عيبا وخللا فقال:
(ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) إنك إذا كررت النظر لم يرجع إليك البصر بما طلبته من وجود الخلل والعيب، بل يرجع إليك صاغرا ذليلا لم ير ما يهوى منهما، حتى كأنه طرد وهو كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة.
لمن الملك اليوم للله الحق
والمراد بقوله « كرتين » التكثير كقوله:
لو عدّ قبر وقبر كان أكرمهم بيتا وأبعدهم من منزل الذّام
وبعد أن بين خلوّ السموات من العيب ذكر أنها الغاية في الحسن والبهاء فقال:
(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) ولقد زينا السماء القربى من الأرض وهي التي يراها الناس بكواكب مضيئة بالليل كما يزيّن الناس منازلهم ومساجدهم بالسّرج، ولكن أنّى لسرج الدنيا أن تكون كسرج الله؟ أن نظام السماوات لا خلل فيه، بل هو أعظم من ذلك، فقد زينت سماؤه القريبة منا بمصابيح، هي بهجة للناظرين، وعبرة للمعتبرين.
(وَجَعَلْناها رُجُومًا لِلشَّياطِينِ) وهذه الكواكب لا تقف عند حد الزينة بل بضوئها يكون ما في الأرض: من رزق وحياة وموت، بحسب الناموس الذي سنناه، والقدر الذي أمضيناه، ويكون في العالم الإنساني وعالم الجن نفوس تتقاذفها الأهواء، وتتجاذبها اللذات والشهوات التي تنجم من العناصر المتفاعلة بسبب الأضواء المشعّة النازلة من عالم الكواكب المشرقة في السماء.
وقصارى القول - إن هذه الكواكب كما هي زينة الدنيا، وأسباب لرزق ذوي الصلاح من الأنبياء والعلماء والحكماء، هي أيضا سبب لتكوّن الأرزاق المهيجة لشهوات شياطين الإنس والجن فهذا العالم قد اختلط فيه الضر بالنفع، وأعطى لكلّ ما استعدّ له فالنفوس الفاضلة، والنفوس الشريرة، استمدت من هذه المادة المسخّرة المقهورة، فصارت سببا لثواب النفوس الطيبة، وعذاب النفوس الخبيثة، وصار لهم فيها رجوم وظنون، إذ هم قد استمدوا شيطنتهم من مظاهر الطبيعة الناشئة من الحرارة والضوء.
ويرى بعض المفسرين أن المراد أن المصابيح التي زيّن الله بها السماء الدنيا لا تزول عن مكانها ولا يرجم بها، بل ينفصل من الكواكب شهاب يقتل الجني أو يخبله.
قال قتادة: خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوم للشياطين، وعلامات يهتدى بها في البر والبحر، فمن تكلم فيها بغير ذلك فقد تكلم فيما لا يعلم، وتعدى وظلم.
(وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) وهيأنا لهؤلاء الشياطين في الآخرة عذاب النار الموقدة كفاء ما اكتسبوا من اللذات، وانجذبوا إليه من الشهوات، وغفلوا عن جمال هذه العوالم التي لم يعرفوا منها إلا شهواتهم، أما عقولهم فقد احتجبت عنها.
والخلاصة - إن السماء قد أضاءت على البر والفاجر، فالفجار حصروا أنفسهم في شهواتهم، فلم ينظروا إليها نظر فكر وعقل، بل نظروا إليها باعتبار أن بها تقوم حياتهم، وهؤلاء أعتدنا لهم عذاب السعير في الآخرة، لأن هذا يشاكل حالهم في الدنيا، إذ هم فيها قد حبسوا أنفسهم في نيران البخل والحقد والطمع، فتحولت إلى نار مبصرة يرون عذابها في الآخرة.